أسئلة العدالة الانتقالية في مصر ورومانسيتها (الجزء الأول): بين أجندة الإخوان ويمين السيسي الكاذب..
أقسمَ السيسي - وزير الدفاع وشريك الحُكم - كذباً أن الجيش لم يقتل ولم يأمر بقتل، ولم يغدر ولم يأمر بغدر... وربما أصدقه في الثانية، فكثير من الحكام الذين قتلوا وعذبوا وسرقوا – كمبارك نفسه وشليلته- لم يعتبروا أنفسهم آنذاك غادرين أو خائنين وإنما استباحوا السهل الحرام كأولاد باشاوات وأصهار سلالة الإقطاعيين "الكاكي"، على اعتبار أن تلك طريقة معيشة وأسلوب حياة شعوب المشرق.
لكنّ السيسي في الأولى كاذبٌ لا شك، ربما لم يأمر السيسي بشخصه بقتل أحد، لكن ضباطاً عنده قتلوا وعذبوا، وربما لم يأمر بغدر، لكن ضباطاً عنده غدروا وانتهكوا عرض النساء وكشفوا عذريتهم، ومارسوا تشويه السمعة بالجُملة، وسحلوا المتظاهرين القابضين على جمر محمد محمود، وأخفوا المستندات التي أنقذها الثوار من حرائق أمن الدولة التي عمدت لإخفاء الأدلة والحقائق ... فقط لذكر بعض أخطاء وخطايا العسكر - في واحد من أغبى المراحل الانتقالية وأضلّ مسارات التحول التي شهدها التاريخ الحديث - وليس لحصرها.
(1)
لقد فهمت ببساطة، كما فهم الجميع، سرّ تصريحات السيسي التي أدلى بها بعد اجتماع مع الرئيس؛ الحجّ مرسي بيك، لم تكن تلك التصريحات رداً على أي إساءة للجيش مؤخراً، بل على العكس، أصبحت الصحف تعج ليل نهار بالنداء على الجيش حامي الحمى لإنقاذ البلد (لسخرية القدر؛ إنقاذها من نتائج صنعها الجيش بنفسه كشريك في الحكم مع الإخوان)، وخفتت إن لم تكن تلاشت أي انتقادات للعسكر، وحِبرُ صُحف الثورةِ الأولى لم يجفُ بعدْ حتى تنزلت أناجيل الصفح والمغفرة.
فعلى من غضبَ السيسي إذن؟ على من كان يرد؟ بالطبع على شركاء الحكم، كانت تصريحاته عتاب للإخوان الذين لسنا بحاجة أن نخمن كثيراً أنهم أصحاب المصلحة الأولى في تسريب تقرير تقصي الحقائق لصحيفة الجارديان، وإن لم يكونوا فعلوا، فيكفي أن نذكّر أن مرسي وإخوانه هم من شكلوا لجنة تقصي الحقائق وهم من اهتموا بإعادة التقليب في الدفاتر التي نجح طنطاوي وشلته، بمساعدة سكوت الإخوان وتشويههم للثوار، في ردمها وقصقصة ما يجب قصقصته من صفحاتها.
كانت تصريحات السيسي، عتاب شركاءٍ في الحكم، لا أكثر ولا أقل.. فالجيش لم يهتم بالرد على كثير من ما يسميها السيسي "إساءات للجيش" وهي تتراوح بين ترّهات إعلام غير مهني ترعاه السلطة ذاتها، إلى انتقادات في محلها أو في غير محلها، ويحق لأصحابها أن يعبّروا عنها كما شاءوا. لكنه بعد سويعات من نشر الجارديان لمقتطفات من تقرير تقصي الحقائق الذي خلُص إلى تورط الجيش في قتل وتعذيب المتظاهرين، لم يقف صامتاً وخرج ليقول ويتكلم.
(2)
يقول الإخوان إن المعارضة وجبهة الإنقاذ (التي انتهى بها الحال إلى مجرد كيان إعلامي غير قادر على الفعل بينما تقوده وتسبقه جماهير محبطة وغاضبة) هي المسؤولة عن إخفاق الحكومة ومرسي – شوف إزاي!! – في إقرار العدالة الانتقالية وإعادة محاكمة القتلة وإبقاء مبارك في محبسه. وفي المُجمل تنطوي تصريحات الإخوان دائما على اتهامات للمعارضة بأنها الباب الخلفي للفلول للعودة إلى المشهد السياسي... وهو كذب وفشل آخر، مثل كذب السيسي ومن نفس عينته.
صحيح أن المعارضة كانت – في مجملها وكالمعتاد - فاشلة وغير ناضجة وليست على مستوى التحديات التي تشهدها البلاد، وصحيح أيضاً أن بعضاً من رموزها يتمنى فشل مرسي والإخوان بقدر أكبر من حبه وحرصه على مصلحة هذه البلاد، وصحيحٌ كذلك – أخيراً - أن بعض رموزها رحبّوا بالفلول بل هم فلول أنفسهم.. لكن كل هذا الفصل البايخ بصخبه وجلبته واحتدامه ليس سوى مشهدٍ على هامش المسرحية الكبرى، أو فاصل إعلاني طويل لا يؤثر في الفيلم لكنه يصيب المشاهد بالملل
شركاء الحكم، من عسكر وإخوان، هم المسؤول الأول عن عودة الفلول للمشهد، سواء كان ذلك بطريق غير مباشر حين كفرت قطاعات متزايدة من الشعبِ بالثورة وانفضوا من حولها حين فشل المتصدرون لقيادة هذا البلد تِباعاً في التعبير عن أشواق الناس أو تمثيلهم بصدق، أو بطريق مباشر إذ رأينا في غيرِ مشهدٍ، الفلول يُدفعون للركن الأمامي من الصورة، سواء كان ذلك في تعيينات البرلمان، أو اختيار قيادات الصحف القومية، أو في وزراء الحكومة ذاتها، ليزيد اختلاط الحابل بالنابل، ويستمر العكُ ما شاء الله أن يستمر.
وكمجرد مثال على الأنموذج الذي يقدمه الإخوان، قضت محكمة الجنايات في الأسبوع الماضي بالسجن والغرامة لسامي مهران، أمين عام مجلس الشعب السابق، وشمل الحكم أفراد من عائلته، وهو الذي أسبغ عليه الكتاتني نعمَه ظاهرة وباطنة، ورفض الطلبات المتكررة للاستعانة برجلٍ لم يتلوث في أوحال النظام السابق. بينما – وبالمعايير المزدوجة الوقحة – كان الإخوان يطالبون شفيق بإبراء ذمته المالية أولاً قبل العودة للحياة السياسية. ماذا يُنتظر من المتابع إذن؟ أن يصدق إن الرجل الوطواط سيظهر في النهاية وعلى ظهره سيفين ومُصحف ليخطف شفيق من المشهد ويُقنع البشر أن لا يأسوا على مافاتهم وأن الإخوان قد أحاطوا بكل شيءٍ علماً؟
(3)
لا يقلب الإخوان في دفاتر الثورة لأجل مصلحة البلد، ولكن لأجل مصلحتهم الشخصية، والهيمنة على مؤسسات الدولة إذ يكون الخطاب الثوري مجرد وسيلة لذلك الغرض، كما حدث مع عزل النائب العام السابق كمطلب ثوري لكنهم جاءوا بنائب خاص يتبع مرسي وإخوانه، بطريقة حتى لم ينجحوا في طهيها جيداً كما كان يفعل المخلوع مبارك. وحين لاحت الفرصة لتصحيح الخطأ وتعيين نائب عام عن طريق مجلس القضاء الأعلى، لم يستجيبوا، ليثبتوا للمرة الألف حرصهم على استغلال الخطاب الثوري لأغراض خاصة وليس لأجل أهداف الثورة.
بنفس المنطق، يُمكن الجزم أن تقرير تقصي الحقائق سيُستخدم – أو بدأ استخدامه فعلاً - في معارك تصفية حسابات مع الدولة العميقة وقيادات في أجهزة المخابرات والداخلية، لأجل ضمان ولاء كامل لتلك الأجهزة لصالح الإخوان وأجندتهم. وبشهادة الناشط تقادم الخطيب وعضو إحدى اللجان الفرعية في هيئة تقصي الحقائق، فإن الأمانة العامة للجنة رفضت إرفاق نسخة من التقرير النهائي في وزارة العدل، أو أي جهة حكومية (وهو يضم ما يربو عن 300 صفحة بالإضافة لمئات الصفحات وتسجيلات الصوت والصورة من المستندات)، ثم إن التقرير بعد إحالته للرئاسة، استغرق أسبوعين كاملين قبل إرساله للنائب العام، ومن نافلة القول إن أحداً لم يطلع على ماحدث وراء الكواليس في قصور مرسي.
تصريحات السيسي إذن وأجندات الإخوان المُعلنة والخفية كلها تدور حول / أو تستخدم / أو تزعم استهداف / إجراء العدالة الانتقالية، وتطهير مؤسسات الدولة، في حين أن الواقع يقول إن مصر أبحرت بعيداً جداً عن كلا الهدفين وإن القصة برمّتها تستدعي مقاربة مختلفة تماماً لتصفية خطر الفلول ودمجهم في مصر ما بعد الثورة، لأجل تحقيق أهدافها وتجاوز الماضي الصعب.
[سينشر الجزء الثاني من المقالة يوم غد الجمعة]